جاء لحل أزمة العدالة الجزائية في تضخم عدد القضايا المعروضة عليها ، وفي بطء وتيرة إجراءات الإحالة والفصل في تلك القضايا مما قلل من فعالية الجهاز القضائي برمته.
الأمر الذي حذا بأغلب التشريعات المقارنة إلى تبني إجراءات جزائية جديدة من شأنها التقليل من عدد القضايا المعروضة على القضاء الجزائي و تبسيط إجراءاتها ومن هذه الاجراءات إجراء المثول الفوري ، وهو الأ نفسه الذي دفع بالمشرع الجزائري مؤخرا لإدخال العديد من التعديلات على قانون الاجراءات الجزائية بموجب الأمر رقم 15-02 المؤرخ في 23 جويلية 2015.
ومن بين تلك التعديلات إدخال إجرائي المثول الفوري و الامر الجزائي كطريقين من طرق إخطار المحكمة الجنحية بالدعوى وهما موضوع هذه المداخلة:
المثول الفوري هو الإجراء المستحدث بموجب الامر رقم : 15-02 المؤرخ في : 23 جويلية 2015 و الذي تم بموجبه استبدال إجراء التلبس كطريق من طرق إخطار المحكمة الجنحية بالدعوى ، و المثول الفوري وهو إجراء من إجراءات المتابعة التي تتخذها النيابة وفق ملائمتها الإجرائية في إخطار المحكمة بالقضية.
وقد ورد التنصيص عليه بالمادتين 333 و 339 مكرر من قانون الاجراءات الجزائية ، ويهدف المثول الفوري إلى تبسيط إجراءات المحاكمة فيما يخص الجنح المتلبس بها والتي لا تحتاج إلى إجراءات تحقيق خاصة ، فهي تتعلق بجرائم تكون فيها أدلة الاتهام واضحة و تتسم في الوقت وقائعها بخطورة نسبية سواء لمساسها بالأفراد أو الممتلكات أو النظام العام.
أ – الشروط الموضوعية المتعلقة بالجريمة ذاتها :
– أن تكون الجريمة المرتكبة تحمل وصف الجنحة ومن ثمة فلا مجال للحديث عن المخالفات أو الجنايات المتلبس بها .
– أن تكون الجنحة متلبسا بها ولقد حددت المادة 41 من قانون الاجراءات الجزائية حالات التلبس وهي :
– إذا كانت مرتكبة في الحال أو عقب ارتكابها.
– إذا كان الشخص المشتبه في ارتكابه إياها في وقت قريب جدا من وقت وقوع الجريمة قد تبعه العامة بصياح أو وجدت بحيازته أشياء أو وجدت آثار ودلائل تدعوا إلى افتراض مساهمته في الجناية أو الجنحة.
– إذا ارتكبت في منزل أو كشف صاحب المنزل عنها عقب وقوعها وبادر في الحال باستدعاء أحد ضباط الشرطة القضائية لإثباتها .
– أن لا تكون الجنحة المتلبس بها من الجرائم التي تخضع المتابعة فيها لإجراءات تحقيق خاصة ، ويلاحظ هنا أن المشرع لم يستثني جنح الصحافة والجنح ذات الصبغة السياسية من تطبيق هذا الإجراء (المثول الفوري) على عكس ما كان يشترطه بالنسبة لإجراء رفع الدعوى أمام المحكمة بطريق التلبس.
كما يلاحظ أن المشرع قد حذف الشرط المتعلق بأن تكون الجنحة المقترفة معاقب عليها بالحبس وفق ما كانت تنص على ذلك المادة 59 من قانون الاجراءات الجزائية بالنسبة لإجراء رفع الدعوى بطريق إجراء التلبس.
وقد حصرتها المادة 339 مكرر 1 من قانون الاجراءات الجزائية في عدم تقديم المقبوض عليه لضمانات كافية للحضور للمحاكمة
ج – الشروط الإجرائية :
– أن يتم استجواب المشتبه فيه من قبل وكيل الجمهورية عن هويته والأفعال المنسوبة إليه (م 339 مكرر 2)
– إخبار وكيل الجمهورية للمشتبه فيه بانه سوف يمثل فورا أمام المحكمة (م 339 مكرر 2)
– إبلاغ وكيل الجمهورية للضحية و الشهود بأنهم سوف يمثلون فورا أمام المحكمة ( م 339 مكرر2)
– حق المشتبه فيه بالاستعانة بمحامي عند مثوله أمام وكيل الجمهورية.
وانه يجب استجوابه حينها من طرف وكيل الجمهورية بحضور محاميه ، وينبغي التنويه بذلك بمحضر الاستجواب ( م 339 مكرر 3) .
– وضع نسخة من الاجراءات تحت تصرف المحامي وتمكينه من الاتصال بالمتهم وعلى انفراد في مكان مهيأ لهذا الغرض ( م 339 مكرر 04)
– بقاء المتهم تحت الحراسة الأمنية إلى غاية مثوله أمام المحكمة ( م 339 مكرر 04).
أن تتم محاكمة المتهم فور مثوله أمام المحكمة لان هذا الإجراء المثول الفوري يقوم على مبدأ السرعة في الاجراءات وعلى وضوح القضية المحالة باجراء المثول الفوري إلا انه يرد على هذه القاعدة استثناءين ورد التنصيص عليهما بالمادة 339 مكرر 5 و هما :
1- تمسك المتهم بحقه في تحضير دفاعه بعد أن يقوم رئيس الجلسة بتنبيهه بذلك الحق وهنا تمنحه المحكمة مهلة لا تقل عن ثلاثة أيام لتحضير دفاعه ، ونلاحظ هنا أن المشرع لم يحدد الحد الأقصى لهذا التأجيل وفق اجراء المثول الفوري ، سيما في حالة ما إذا تقرر حبس المتهم مؤقتا ، على غرار ما فعل المشرع الفرنسي ( المادة 397 من ق ا ج ف ).
والذي جعل التأجيل في هذه الحالة محصورا بين أسبوعين وستة أسابيع ، غير انه وطالما أن النصوص القانونية تقرأ مجتمعة وهي تكمل بعضها بعضا فان الحل يبدوا في الفقرة الأخيرة من المادة 339 مكرر 5 والتي جعلت التأجيل في حال لم تكن الدعوى مهيأة للفصل فيها إلى اقرب جلسة ممكنة.
2- إذا رأت المحكمة بان القضية غير مهيأة للفصل فيها ( كعدم حضور شاهد أو الضحية أو لكون المتهم تمسك بشاهد نفي ، أو لكون أوراق الملف الجزائي غير تامة سيما عدم وجود شهادة ميلاد المتهم أو صحيفة سوابقه القضائية … ) وغيرها من العناصر التي ترى المحكمة بانه من الضروري استيفائها للفصل في الدعوى على أحسن وجه.
وهنا تأجل المحكمة القضية لأقرب جلسة ممكنة ،لذلك ينبغي أن تحرص النيابة أثناء إشرافها على التحقيق التمهيدي على استجماع كل العناصر الضرورية اللازمة لتمكين المحكمة من الفصل في القضية المعروضة عليها عند أول جلسة ، وذلك تحقيقا لمبدأ المحاكمة الفورية التي تعتبر أصل وأساس هذا الإجراء ، لذلك نجد مثلا في التشريع الفرنسي ( المادة 393 من ق إ ج ف ) أن من بين شروط تطبيق إجراء المثول الفوري أن يكون ملف المتابعة مستجمعا لكافة الأدلة والعناصر الضرورية.
وينشأ عن تأجيل المحكمة للقضية ضرورة البت في وضعية حرية المتهم وذلك بعد الاستماع لطلبات النيابة والمتهم ودفاعه أن وجد ( المادة 339 مكرر 06 من ق ا ج ).
ومن عندها يجب على المحكمة أن تقرر اتخاذ احد التدابير المنصوص عليها بالمادة 339 مكرر 6 من قانون الاجراءات الجزائية :
ترك المتهم حرا ،إخضاع المتهم لتدبير أو أكثر من تدابير الرقابة القضائية المنصوص عليها في المادة125 مكرر 1 من قانون الاجراءات الجزائية ،وضع المتهم في الحبس المؤقت.
ويلاحظ أن المشرع قد وفق كثيرا في ترتيب التدابير المذكورة وذلك استجابة منه لمتطلبات قرينة البراءة فابتدأ بتدبير ترك المتهم حرا ، لان ذلك هو الأصل ثم تدرج إلى تقييد حرية المتهم بإحدى تدابير الرقابة القضائية وصولا إلى تدبير وضع المتهم بالحبس المؤقت وهو التدبير الاستثنائي الأخير .
إن اتخاذ المحكمة لإحدى التدابير السالفة يجب أن تكون مبينة على معايير موضوعية تجعل من اتخاذها لأي تدبير من تلك التدابير يحقق الغرض منها لأن الغرض من اتخاذ أي من التدابير المذكورة هو ضمان مثول المتهم أمام المحكمة ولحسن سير إجراءاتها لا غير وعلى سبيل المثال :
– ترك المتهم حرا :
وهو الأصل ويكون مثلا في الحالات التي :
1- يقدم فيها المتهم فيها ضمانات للمثول أمام المحكمة ، كموطن معروف ، ومهنة مستقرة
2- أن ترك المتهم حرا ليس من شانه التأثير على حسن سير المحاكمة وليس من شانه التأثير على الشهود ، أن العناصر الأولية للملف يظهر من خلالها بوضوح عدم نسبة الجريمة للمتهم أو أن التهمة وعلى فرض ثبوتها فإنها لا تستحق عقوبة سالبة للحرية نافذة …. الخ ، إلى غير ذلك من عناصر التقدير التي تراها المحكمة مساعدة لها في ترك المتهم حرا.
ويثور التساؤل هنا حول ما إذا كان يجب على القاضي أن يصدر أمرا مسببا ومكتوبا بترك المتهم حرا أم لا ؟ وان كان لا يوجد ما يمنع من ذلك فان تسبيب ذلك الامر وإصداره قد يعد تزيدا لان المتهم مثل أمام المحكمة أصلا وهو حر وطالما لم تقيد تلك الحرية ولم تسلب منه فلا طائل من تحرير امر خاص بتركه حرا ، ناهيك عن كون ذلك الامر غير قابل للاستئناف من أي طرف.
وبالتالي تنتفي العلة من تحرير ذلك الامر ويكفي أن ينطق به القاضي شفاهة بالجلسة و يشير إليه على حافظة الملف.إخضاع المتهم لتدبير من تدابير الرقابة القضائية :ويعتبر هذا التدبير من التدابير البديلة عن اللجوء للحبس المؤقت ، ويلجأ إليها القاضي كخيار وسط بين ترك المتهم حرا أو وضعه في الحبس المؤقت وذلك عندما يرى بان إخضاع المتهم لإحدى تدابير الرقابة القضائية المنصوص عليها بالمادة 125 مكرر 1 من قانون الاجراءات الجزائية كفيلة بضمان مثول المتهم أمام المحكمة في التاريخ الذي أجلت إليه الدعوى.
فإذا قرر القاضي اللجوء إلى تدابير الرقابة القضائية فعليه أن يتخير منها ما يحقق الغرض من توقيعها بالنظر إلى خطورة الوقائع ومدى ثبوتها في حق المتهم ومدى ملائمة كل تدبير مع شخصية المتهم والتي تكون كفيلة بجعله يمتثل للحضور أمام المحكمة في الجلسة التي تم تأجيل القضية لتاريخها.
وهنا يجب على القاضي أن يحرر أمرا خاصا يقرر فيه التدبير أو التدابير التي يلزم المتهم التقيد بها ، لأنه بناء على ذلك الامر تتولى النيابة العامة متابعة و تنفيذ تدابير الرقابة القضائية المذكورة ( طبقا للمادة 339 مكرر 7 من قانون الاجراءات الجزائية ).
غير أنه لا يترتب على مخالفة المتهم لإحدى تدابير الرقابة القضائية وضعه رهن الحبس المؤقت كما هو الحال بالنسبة لخرق تدابير الرقابة القضائية المقررة من طرف قاضي التحقيق ( المادة 123 من قانون الاجراءات الجزائية ) وإنما يجعل منه مرتكبا للجنحة المنصوص عليها بالمادة 129 من قانون الاجراءات الجزائية ، أين يمكن عقابه بغرامة و-أو بالحبس.
كما يتعين على القاضي وعند فصله في موضوع القضية أن يرفع الرقابة القضائية التي امر بها وذلك لانتهاء علة الامر بها بالمحاكمة وهو الامر الذي يفهم من نص المادة 125 مكرر 03 من قانون الاجراءات الجزائية ،
وضع المتهم رهن الحبس المؤقت :
جعل المشرع لجوء المحكمة لوضع المتهم رهن الحبس المؤقت الخيار الأخير للمحكمة وذلك ينسجم مع طابعه الاستثنائي ( المادة 123 من قانون الاجراءات الجزائية) ، ويكون اللجوء إليه عادة في حالة انعدام موطن مستقر للمتهم أو كانت الأفعال جد خطيرة ، أو أن الحبس هو الإجراء الوحيد لمنع الضغوط على الشهود أو الضحايا أو التواطوء بين المتهمين أو أن لحبس ضروري لحماية المتهم وغيرها من المعايير التي يمكن لقاضي الحكم أن يستنبطها من نص المادة 123 مكرر من قانون الاجراءات الجزائية المتعلقة بالحبس المؤقت الذي يأمر به قاضي التحقيق.
ذلك أن الغرض الأساسي من وضع المتهم الحبس المؤقت هو لضمان مثوله أمام المحكمة ولحسن سير إجراءاتها وأنه لا يشكل عقوبة مسبقة أو تعجيلا بتنفيذ العقوبة المحتمل توقيعها ضد المتهم ، لان معرفة الغاية من الإجراء تؤدي إلى استعماله تحقيقا لتلك الغاية ولا ينحرف به عنها ويجب على القاضي أن يحرر الامر بوضع المتهم في الحبس المؤقت ، حتى يتسنى للنيابة العامة تنفيذه .
– لذلك فان وضع المتهم رهن الحبس المؤقت :
لا يترتب عليه إدانة المتهم بالضرورة بتاريخ المحاكمة لان القاضي يبني قناعته على ما يدور خلال تلك الجلسة وليس قبلها طبقا للمادة 212 من قانون الاجراءات الجزائية كما لا يترتب على ذلك عقاب المتهم بعقوبة سالبة للحرية نافذة بالضرورة عند المحاكمة لان تقدير العقوبة الملائمة تستشفها المحكمة أيضا بعد محاكمة المتهم وبناء على العناصر الموضوعية والشخصية التي تستجمعها خلال تلك المحاكمة والتي قد لا تتوفر لها قبله.
– إن وضع المتهم في الحبس المؤقت بعد تأجيل القضية قد يؤدي إلى خلق نوع من حالة عدم التساوي في مركزه القانوني مع المتهم الذي لا يتم تأجيل دعواه والذي يشترك معه في نفس الظروف الشخصية والموضوعية ،
فمثلا :
متهم متابع بجنحة حمل سلاح ابيض بدون سبب شرعي ولا يتم تأجيل قضيته وينطق في حقه بعقوبة ستة أشهر حبسا نافذا فهو سيبقى حرا طليقا لأن القاضي لا يستطيع أن يصدر في حقه أمرا بالإيداع في الجلسة طالما أن عقوبة الحبس المحكوم بها عليه تقل عن سنة وفق ما تشترط ذلك المادة 358 من قانون الاجراءات الجزائية ، في حين أن متهم آخر في نفس الوضعية تماما وبنفس التهمة إذا أجلت قضيته وتقرر وضعه الحبس المؤقت فانه عند إدانته بعقوبة ستة أشهر حبسا نافذا سيبقى في حالة إيداع ما لم يقرر رئيس الجلسة الإفراج عنه.
– ولما كان القاضي يسعى إلى تحقيق المساواة بين الحالات المعروضة عليه بموجب المثول الفوري التي تتطابق ظروفه الموضوعية والشخصية فعليه أن يراعي الحلول القانونية الممكنة لتفادي عدم المساواة غير المرغوبة كعدم وضع المتهم رهن الحبس المؤقت أصلا في مثل هذه الحالات ، لان القاضي يحرص على أن لا يؤدي تطبيق النصوص القانونية لخلق وضعيات تخل بمبدأ المساواة أمام القضاء نتيجة ظروف لا يد فيها للمتهم ، وإنما تتعلق بقواعد إجرائية بحتة والتي جاء المثول الفوري لحلها ،
– كما يثور التساؤل حول هل يجب على القاضي أن يفصل في الحبس المؤقت الذي امر به بعد فصله في موضوع القضية المعروضة عليه بموجب اجراء المثول الفوري ؟ لا يوجد أي نص قانوني يلزم القاضي بالفصل في ذلك وتطبق على هذه الحالة القواعد العامة فإذا تم الحكم على المتهم بالبراءة أو بعقوبة الغرامة أو بعقوبة سالبة للحرية مع وقف التنفيذ أو بعقوبة العمل للنفع العام أو كانت مدة العقوبة المحكوم بها عليه قد استنفدت بمدة الحبس المؤقت فانه يفرج عن المتهم بقوة القانون ، طبقا للمادة 365 من قانون الاجراءات الجزائية ، و إلا فان المتهم يبقى محبوسا إلا إذا قرر القاضي الإفراج عنه
ويجدر التنويه إلى أن جميع الأوامر التي تصدرها المحكمة سواء بترك المتهم حرا أو وضعه تحت الرقابة القضائية أو رهن الحبس المؤقت تكون غير قابلة للاستئناف طبقا للفقرة الأخيرة المادة 339 مكرر من قانون الاجراءات الجزائية.
لقد بينت تجربة العمل بهذا بإجراء المثول الفوري في فرنسا انه ساهم إلى حد كبير في التقليل من اللجوء إلى الحبس المؤقت إذ بينت إحصائية أجريت على 500 قضية تمت المحاكمة فيها بإجراء المثول الفوري بمحكمة ليون الفرنسية سنة 2007 ، أن نسبة المتهمين الذين تم إيداعهم الحبس المؤقت ضمن اجراء المثول الفوري لا تتعدى 36,2 بالمئة ، مما يجعل من اجراء المثول الفوري فعال لما يكتسيه من سرعة في الاجراءات و في التقليل من اللجوء إلى الحبس المؤقت.