الموضوع: إيـداع شـكوى مـصحوبة بـإدعاء مـدني
طـبقا للمادة 72 من قانون الإجراءات الجزائية
من أجل جنحة الجروح الخطأ طبقا لنص المادة 289 من قانون العقوبات
والمادة 239 من القانون رقم 85-05 المتعلق بحماية الصحة و ترقيتها
و جنحة عدم تقديم مساعدة الى شخص في حالة خطر طبقا لنص المادة182 من قانون العقوبات
لفائدة : ......
المولود بتاريخ ................., بـ ............
الساكن ب: ..............
الجاعل موطنه المختار مكتب محاميه بـ ...............
القائم في حقه الأستاذ حرير عبد الغاني، محامي لدى المجلس،
الكائن مكتبه بـ.........................................الشاكي
ضـــد : 1 الدكتور......................
2 الدكتور ....................
المقيمان بعنوانهما المهني بـ ............مشتكى منهما
بحضور :
1-العيادة ........................
2-المجلس الجهوي لأخلاقيات الطب - مدينة الجزائر-
//////////////////////////////////
سيدي عميد قضاة التحقيق المحترم،
1/- أنه بتاريخ ...... و نظرا لمعاناة الشاكي من الام شديدة على مستوى كليته اليمنى قام بإجراء فحوصات و أشعة بإحدى العيادات ب.......، أين صرح له الأطباء بأن مصدر تلك الالام هو وجود جسم غريب تحت كليته ألا و هو أداة "LAME " تم تركها في جسمه في عملية جراحية سابقة................... (وثيقة مرفقة)
- حيث أن هذه العملية السابقة هي التي أجراها بتاريخ ......... بالعيادة الخاصة المسماة "......." ،الكائنة بـ ---------------- على يد الدكتوران ........... المشتكى منهما ،مقابل 80.000 دج ستون ألف دينار جزائري. (وثيقة مرفقة)
- لأنه وعلى اثر هذه العملية تم ترك الأداة المستعملة فيها، في جسم المريض دون أن ينتبه الطبيبان لهذا الخطأ الفادح على الرغم من حجمها المعتبر.
- و لأنه والأدهى من ذلك هو التمادي في الخطأ و عدم إستدراكه، إذ و مباشرة بعد العملية و بسبب إحساس الشاكي بشيئ صلب مكان العملية الجراحية أعلم بها الدكتور .......... هذا الأخير قام بقطع الجزء الضاهر فقط من الجسم الغريب دون القيام بأي فحص للمريض عن مصدر و ماهية هذا الجسم الغريب من باب الإحتياط و الإهتمام المفروض على أي جراح.
و منه أن فالعارض و نظرا لعدم درايته بالمجال الطبي غادر العيادة ظنا منه أنه قد تمت إزالة الأداة كليا و أن الخطأ قد تم تداركه.
2/ - إلا أنه منذ ذلك التاريخ و الشاكي يحس بآلام و تعقيدات لم يكن يعلم مصدرها ذلك أنه لم يعلم بحقيقة الوضع و بخطورة الحالة الصحية التي كان عليها،إلا بعدما دفعته شدة الألم إلى زيارة طبيب آخر بقسنطينة و الذي أعلمه بمصدر مرضه.
- أن العارض لم يترك طبيبا و لا مستشفى إلا و توجه إليه من أجل نزع الجسم الغريب، إلا أنه و بإجماع كل الدكاترة الذين زارهم لا يمكن اجراء عملية نزع اللأداة إلا من طرف الطبيب الذي أشرف على العملية الأولى.
- حيث أن الشاكي تفاجأ بذلك، لأنه كان عاد مرات عديدة إلى الدكتور ...... من أجل المراجعة الطبية و إجراء الأشعة "السكانير"، إلا أن الطبيب لم يفصح أبدا للشاكي عما تخفيه نتيجة " السكانير"، و هو ما يسفر عن سوء نية واضح و يعد إخلالا بالتزام بالإعلام اتجاه المريض،الذي تنص عليه مدونة أخلاقيات الطب.
- حيث أن امتناع الطبيب عن إخبار الشاكي بحقيقة وضعه الصحي و لا مبالاته ، ترتب عنه معاناة العارض من عدة تعقيدات لمدة سنتين كاملتين جراء بقاء الأداة داخل جسمه.
- أن المشتكى منهما قد أخطأ مرتين، الأولى عندما تسببا بإهمالهما في ترك أداة العملية في جسم المريض دون أن ينتبها لذلك، و الثانية و الأخطر هي رفضهما الإفصاح عن حقيقة الوضع للعارض و التهرب عن المسؤولية، الأمر الذي جعل حالة الشاكي الصحية تزداد تعقيدا كلما زاد الطبيبان في تعنتهما و تأخيرهما إجراء عملية نزع الأداة.
- حيث أن حياة العارض أصبحت عرضة للخطر بسبب تعفن الأداة داخل جسمه، فأصبح شبه معاق لا يمكنه التحرك دون إعالة.
3/- حيث أن الشاكي و رغم تدهور حالته الصحية إلا أنه تحمل مشقة التنقل من بجاية..... إلى الجزائر مرارا و تكررا أملا منه في أن يصحو ضمير الطبيبين عساهما يقبلان بإجراء العملية ، لكن لا حياة لمن تنادي!!!
أنه و أخيرا و بعد إلحاح الشاكي قرر الدكتور ....... و بعد سنتين من التهاون و التهرب من المسؤولية، وافق على أن يجري للعارض العملية بتاريخ ............. بنفس العيادة الأولى"..............".
- حيث أن الطب هو مهنة نبيلة تمارس ضمن احترام حياة الفرد و شخصه البشري و قد نظمها المرسوم التنفيذي رقم 92-276 الذي يتضمن مدونة أخلاقيات الطب، الذي ينص في مادته التاسعة (09) من نفس المرسوم:" يجب على الطبيب أو جراح الأسنان أن يسعف مريضا يواجه خطرا وشيكا، أو أن يتأكد من تقديم العلاج الضروري له"
و عليه المناقشة القانونية :
- حيث أن قانون العقوبات يضع الفعل الذي قام به المشتكى منهما محل مساءلة قانونية باعتباره يشكل جنحة الجروح الخطأ الفعل المنصوص و المعاقب عليه طبا لنص المادة 289 من قانون العقوبات والمادة 239 من القانون رقم 85-05 المتعلق بحماية الصحة و ترقيتها، وكذا جنحة عدم تقديم مساعدة إلى شخص في حالة خطر طبقا لنص المادة 182 من قانون العقوبات.
- و هما الجنحتين الثابتتين في حق كل من السيد ......... و السيد ..........،و قائمتين بكل أركانهما المادية و المعنوية، و فقا لما سيتم توضيحه أدناه:
1/ - بالنسبة لجنحة الجروح الخطأ و مسؤولية الطبيب الجزائية :
- حيث تنص المادة 239 من القانون رقم 85-05 المؤرخ في 16/02/1985 المتعلق بحماية الصحة و ترقيتها: " يتابع،طبقا لأحكام المادتين 288 و 289 من قانون العقوبات،أي طبيب أو جراح أسنان أو صيدلي أو مساعد طبي،على كل تقصير أو خطا مهني يرتكبه،خلال ممارسته مهامه أو بمناسبة القيام بها، و يلحق ضررا بالسلامة البدنية لأحد الأشخاص أو بصحته،أو يحدث له عجزا مستديما،أو يعرض حياته للخطر، أو يتسبب في وفاته."
- حيث تنص المادة 289 من قانون العقوبات:" إذا نتج عن الرعونة أو عن عدم الاحتياط إصابة أو جرح أو مرض أدى إلى العجز الكلي عن العمل...فيعاقب الجاني بالحبس من شهرين إلى سنتين و بغرامة من 500 إلى 15.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين."
- حيث أنه و بتطبيق نصوص المادتين أعلاه على الأفعال المرتكبة من طرف المشتكى منهما، نجد أن أركان جنحة الجروح الخطأ قائمة في قضية الحال:
- حيث أن المشتكى منهما قد تسببا للشاكي بجروح و الام خطيرة بسبب الأداة التي تم تركها بجسمه و التي بقي يعاني من اثار وجودها لسنتين كاملتين، ناهيك عن الجروح الناتجة عن عملية نزع الأداة.
- حيث أن ترك أداة جسم غريب – طولها 10 سم- في جسم الشاكي ما هو إلا دليل على رعونة و إهمال خطيرين و لا مبالاة واضحة لا تستدعي أي شك.
أن المشتكى منهما و بصفتهما طبيبين هم على دراية تامة و كاملة بأن وجود جسم غريب تحت كليته يهدد حياته و لا يجب التراخي في نزعه.
- أنه إضافة الى الضرر الجسدي الذي لحق بالعارض جراء تزايد خطورة الوضع الذي كان عليه و تدهور حالته الصحية من السيئ الى الأسوأ نظرا لبقاء الأداة في جسمه لمدة سنتين.
و هو ضرر محقق و ثابت من خلال كل ما سبق توضيحه و من خلال الشهادات الطبية المؤكدة لوجود جسم غريب على مستوى الكلية و انه تم نسيانه بعد إجراء العملية.
- أنه إضافة إلى كل هذا فان العارض قد لحقه ضرر مادي معتبر جراء المبالغ التي خسرها للعلاج و الانتقال من مستشفى لآخر.
إضافة إلى اضطراره إلى التوقف عن العمل جراء التعقيدات و بقائه دون أي دخل يعيله،مع العلم أنه كان يعمل ......،و بسبب تفاقم المرض أصبح شبه معاق لا يمكنه التنقل دون إعالة.
و هو ما تسبب له في ضرر معنوي و نفسي كبير نتيجة الوضع الذي آل إليه.
أن رسالة الطبيب التي نصت عليها مدونة أخلاقيات الطب تهدف إلى شفاء المريض أو إزالة الألم عليه أو على الأقل التخفيف من حدﱠة مرضه، لكن أن يعرض الطبيب حياة المريض للخطر و يزيد من معاناته فهذا أمر غير مقبول.
- و عليـــــــــــــــــــه :
فان مخالفة الطبيب لهذه المبادئ يرتب عليه المسؤولية المدنية و الجزائية و تستدعي العقاب لأن المشتكى منهما تسببا بخطئهما في تعريض حياة العارض للخطر.
أما عن العنصر المعنوي:فيتمثل في وعي المشتكى منهما بخطورة الوضع الصحي للمشتكى منه و أنه لا يجب التراخي في نزع الأداة من جسمه بسبب تعفنها.
و كذا إدراكهما التام بمدى الضرر اللاحق بالشاكي و ما يتبعه من آثار نتيجة وجود السكين في جسمه.
2/- بالنسبة لجنحة عدم مساعدة شخص في حالة خطر:
حيث أن المادة 182 من قانون العقوبات: " يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات و بغرامة من 500 إلى 15000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من امتنع عمدا عن تقديم مساعدة إلى شخص في حالة خطر كان في إمكانه تقديمها إليه بعمل مباشر منه أو بطلب الإغاثة له و ذلك دون أن تكون هناك خطورة عليه أو على الغير."
أن الطبيبان قد امتنعا عن تقديم المساعدة إلى الشاكي رغم علمهما التام بخطورة الوضع الذي كان عليه، و أنه طلب منهما ذلك عدة مرات و بإلحاح.
أن نتيجة الأشعة "سكانير" التي أجراها الشاكي لدى الدكتور ....التي تثبت وجود الأداة في جسمه، إضافة إلى تكتم المشتكى منهما عنها،يشكلان دليلا قاطعا على رفضهما لتقديم المساعدة له، و التي هي في الحقيقة التزام على عاتقهما و ليست خدمة مجانية.
وعليـــــــــــــــه :
و من خلال الوقائع المذكورة أعلاه و الوثائق المرفقة بالشكوى سيتبين لسيادتكم أن الفعل المقترف من قبل السيدان ... و ...... يشكل جنحة الجروح الخطأ طبقا لنص المادة 289 من قانون العقوبات و المادة 239 من القانون رقم 25-05 المتعلق بحماية الصحة و ترقيتها، وجنحة عدم تقديم مساعدة إلى شخص في حالة خطر طبقا لنص المادة182 من قانون العقوبات.و ذلك لقيام الجريمة بعنصريها المادي و المعنوي.
- حيث أن الوقائع المذكورة أعلاه ثابتة في حق المشتكى منهما.و نظرا لخطورتها فان الشاكي يلتمس منكم السيد عميد قضاة التحقيق متابعة المشتكى منهما .
1- متابعة المدعو ........................الساكن عنوانه المهني مكان إجراء العملية ....
2-متابعة المدعو ......................الساكن عنوانه المهني مكان إجراء العملية ....
على أساس جريمة الجرح الخطأ الفعل المنصوص و المعاقب عليه طبا لنص المادة 289 من قانون العقوبات والمادة 239 من القانون رقم 85-05 المتعلق بحماية الصحة و ترقيتها، و عدم تقديم مساعدة إلى شخص في حالة خطر طبقا لنص المادة 182 من قانون العقوبات.
وكل من يكشف عنه التحقيق.
و هذا بعد قبول تأسيس الشاكي كطرف مدني، و أنه مستعد لدفع كفالة المبلغ المقدر لزومه لمصاريف الدعوى.
تقبلوا منا سيدي عميد قضاة التحقيق، أسمى عبارات الإحترام و التقديــــــر.
تحت جميع التحفظات
عن الشاكي/وكيله
المرفقات :
- ......
- ......
---------------
شــــــــــــرح
إن طبيعة العلاقة بين الطبيب والمريض تقوم على التعاقد بين الطرفين على بذل مصلحة معينة للمريض (التشخيص أو العلاج) في مقابل أجر أو جائزة (إجارة أو جعالة)، وهذه الطبيعة التعاقدية للعلاقة بين الطبيب والمريض مستفيضة عند الفقهاء، وهو ما نجده عند النظر في تعريف الرابطة الطبية الأمريكية للعلاقة بين الطبيب والمريض حيث جاء في لوائح أخلاقيات الطب لهذه الرابطة :"إن إنشاء علاقة بين الطبيب والمريض له طبيعة تعاقدية، ولكل من طرفي العقد أن يختار إنشاء هذه العلاقة أو النكول عنها على وجه العموم".
إن الطبيعة التعاقدية للعلاقة الطبية تعني أن المسؤولية الطبية تتعلق بالسؤال عن إخلال أحد الطرفين أو كليهما بما يلزمهما بالعقد، هذا من حيث العموم، غير أن موضوع البحث هنا يقتصر على الإخلال الواقع من جهة الطبيب ومن في حكمه، وعليه فإن للمسؤولية الطبية أركان هي :
(1) السائل (وهو الجهة التي تملك حق مساءلة الطبيب كالقضاء)،
(2) المسؤول (وهو الطبيب أو من في حكمه)،
(3) المسؤول عنه (وهو الضرر الناشيء في سياق العلاقة الطبية بين الطبيب والمريض وسببه)،
(4) صيغة السؤال (أي العبارة أو الصورة التي يتوجه بها السؤال).
والحاصل مما تقدم أن مدار المسؤولية الطبية يتعلق بوقوع الضرر أو سبب الضرر على المريض من الطبيب أو مَن في حكمه في سياق العلاقة المهنية الطبية بينهما. وهذه المسؤولية تندرج تحت قسمين اثنين يمكن أن تصنف فيهما كل أنواع المسؤولية الطبية، فأقسام المسؤولية الطبية هي :
1. المسؤولية الطبية السلوكية والأخلاقية :
وهيي تتعلق بالنواحي الأدبية للعلاقة الطبية، وتتعلق هذه المسؤولية بجملة من المبادئ الأخلاقية المطلوية من جميع الأفراد، غير أنها في علاقة الطبيب والمريض أشد حرجاً وأهمية، وهي تشمل الصدق والنصيحة وحفظ السر وحفظ العورة والوفاء بالعقد، وتنشأ المساءلة على الخطأ الطبي في هذا القسم جراء الإخلال بواحد أو أكثر من هذه المبادئ مما يؤدي إلى وقوع الضرر أو التسبب فيه، فيوجب هذا الإخلال مساءلة الطبيب وترتب آثار هذه المسؤولية إن ثبت الموجب ولم يظهر له عذر مبيح.
2. المسؤولية الطبية المهنية :
وهذا القسم يتعلق بالنواحي العملية لنفس مهنة الطب، وتتعلق المسؤولية في هذا القسم بإخلال الطبيب بواحد أو أكثر من المبادئ المتفق عليها في عرف المهنة بصورة تؤدي إلى وقوع الضرر على المريض أو التسبب في ذلك. فالعقد المهني بين الطبيب والمريض يلزم الطبيب بالأصول المهنية المعتبرة بحيث لا بد من أن يكون حاذقاً عالماً بطبه (وهذا هو الجانب النظري) ماهراً فيه ( وهذا هو الجانب العملي)، ومطبقاً لهذا العلم والحذق والمهارة على أفضل وجه ممكن، فإذا أخل الطبيب بجانب العلم أو المهارة أو الالتزام بهما ونجم عن ذلك وقوع الضرر أو التسبب فيه وقعت المسؤولية الطبية، وسوف نعرج لاحقاً على الموجبات التي تثبت وقوع هذه المسؤولية بحيث تترتب عليها آثارها.
الأصول التي تنبني عليها المسؤولية الطبية:
إذا نظرنا إلى واقع الممارسة الطبية اليوم وجدنا أن مستند المسؤولية الطبية يعتمد على القوانين المعمول بها في كل مجتمع، وهي وإن كانت تعتبر من حيث المبدأ جملةً الأمور المشتركة المتفق عليها، فإننا نجد تفاوتاً واضحاً في تقويم وتقرير موجبات وآثار هذه المسؤولية؛ فالنظم القانونية المعمول بها اليوم تمنع من مزاولة المهنة مَن لم يتأهل لذلك، ولكننا نجد تفاوتاً بين مجتمع وآخر في آلية تحديد هذه الأهلية، ولا تسمح النظم القانونية للطبيب بالتعدي على المريض بعلاج أو تشخيص بدون إذنه أو إذن سلطة لها صلاحية وولاية خاصة أو عامة، غير أن هناك تفاوتاً بين مجتمع وآخر في تحديد ضوابط هذا التعدي، ففي بعض البلاد يؤاخذ الطبيب الذي يقوم بإسعاف مريضٍ في وضع لا يسمح بانتظار الإذن أو الترخيص كما في بعض الكوارث ونحوها، في حين تجد بعض البلاد الأخرى لا تكاد تبحث في مسائل الخطأ الطبي، وهكذا نجد هذا التفاوت حتى في أكثر البلاد تطوراً كما ورد في تقرير أمريكي عن الخطأ الطبي ورد فيه بيان التفاوت في نظام تحديد المسؤولية الطبية في الولايات المتحدة نفسها، حيث تتفاوت آليات إثبات الإهمال الطبي، وتتفاوت تعويضات المرضى عن الضرر الحادث جراء الخطأ الطبي، بالإضافة إلى تزايد العبء الاقتصادي على الأطباء الذين يطالبون بدفع أقساط باهظة للتأمين ضد الخطأ المهني.
إن بحث موجبات وآثار المسؤولية الطبية لا بد من أن ينبني على أصول وقواعد تقرر جوازه واعتباره، وتضع الإطار العام لضوابطه ومعاييره، ويمكن القول بأن الأصل العام الذي تنبني عليه مباحث المسؤولية الطبية تقوم على حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من تطبَّب ولم يُعرف منه طب فهو ضامن"، فهذا الحديث هو حديث الباب كما يقال، وهو أصلٌ في تضمين الطبيب الجاهل، وموجب المسؤولية هنا يدور على جهل الطبيب سواء أكان جهلاً علمياً أم عملياً كما سنبين، ولقد نبه هذا الحديث على أمور يحسن تقريرها في هذا الموضع منها :
1. تقرير وجود الموجب للمسؤولية :
وهو هنا الإقدام على ممارسة الطب مع الجهل بهذه الممارسة، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله:" وقوله صلى الله عليه وسلم (من تطبب) ولم يقل : من طبَّ، لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسر وكلفة، وأنه ليس من أهله".
2. تقرير ترتب آثار وقوع الموجب :
حيث قال صلى الله عليه وسلم (فهو ضامن)، قال ابن قيم الجوزية:"وأما الأمر الشرعي (أي في الحديث) فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل"، فمتى وقع الموجب وهو الجهل وترتب الضرر كان أثر ذلك ضمان الطبيب لما أتلفه من النفس أو الأعضاء.
3. تحكيم العرف في الحكم على الطبيب بالحذق:
حيث قال صلى الله عليه وسلم (ولم يُعرف منه طب)، والمقصود بالعرف هنا العرف الخاص بين الأطباء، وهذا مندرج تحت القاعدة الفقهية الكلية :" العادة محكَّمة"، أي أن الأمور التي لم يأت الشرع لها بحدٍ معين فإنه يُرجع فيها إلى العرف، والمقصود بالعرف الخاص العرف الذي يكون سائداً بين أرباب المهن الخاصة كالحدادين والتجار والأطباء وغيرهم.
وقد حكى الإمام ابن قيم الجوزية إجماع أهل العلم على تضمين الطبيب الجاهل، وكذلك بالنسبة للتعدي فقد حكى عن الإمام الخطابي قوله:"لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً"، كما قال الله تعالى:"وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله إلا أن يصَّدقوا "، فهذا أصل في تضمين الضرر الواقع بالخطأ، وهكذا اجتمع لنا من الأدلة ما يقرر مشروعية المساءلة الطبية المهنية من ثلاثة أوجه هي : الجهل – الخطأ – الاعتداء، وسيأتي تفصيل هذه الموجبات في المطلب التالي بإذن الله. وأما مشروعية المساءلة الطبية الأدبية فأدلتها هي عموم الأدلة الدالة على وجوب التزام هذه الآداب، ولعلنا نشير إليها يسيراً فيما يأتي.
إن ما تقدمت الإشارة إليه من تقرير أصل المساءلة الطبية من جهة، وبيان التفاوت الكبير الحاصل في تقرير موجبات وآثار هذه المساءلة ليعود بنا إلى التأكيد على أهمية تحرير المرجعية التشريعية والقضائية المتعلقة بهذه المسألة لتكون صادرة عن الشريعة منضبطة بقيودها ومنساقة ضمن كلياتها وأصولها العامة، لا سيما وأن فقهاء المسلمين قد أبدعوا في تحرير وضبط ممارسة الطب منذ زمن بعيد، وبلغوا في ذلك شأواً بعيداً يغنيهم عن الركون إلى غير الشريعة الغراء.