المبحث الثالث : المنازعات الناشئة عن عقد الامتياز
المطلب الأول : منازعات صاحب الامتياز مع الإدارة المانحة له و مع العاملين في المرفق العمومي :
الفرع الأول : منازعات صاحب الامتياز مع الإدارة مانحة الامتياز :
تختلف المنازعات الناشئة بين صاحب الامتياز و الإدارة مانحة الامتياز باختلاف جنسية الملتزم (جزائري أو أجنبي), و أهمية المرفق العمومي محل الامتياز. حيث أن مجمل المنازعات التي يكون فيها صاحب الامتياز ذو جنسية جزائرية تخضع للقضاء الإداري الوطني طبقا للمادة 07 من قانون الإجراءات المدنية المعدل و المتمم, و المادة 09 من القانون العضوي رقم 98-01 المؤرخ في 30 ماي سنة 1998 المتعلق باختصاصات مجلس الدولة و تنظيمه و عمله, و كذلك طبقا للمادتين 800, 801 من القانون رقم 08-09 المؤرخ في 25 فبراير سنة 2008 المتضمن قانون الإجراءات المدنية و الإدارية الجديد. أما المنازعات التي يكون فيها صاحب الامتياز ذو جنسية أجنبية و مستغلا لمرفق عمومي استراتيجي كالمحروقات و الموانئ و المطارات, فغالبا ما يتم الاتفاق على إخضاعها للتحكيم الدولي بسبب عدم ثقة المستثمرين الأجانب في القضاء الداخلي الذي ليس له دراية كاملة بشؤون الاستثمار, كما أنه ليس على درجة كافية من الاستقلالية لمواجهة السلطة السياسية. و لهذا سنحاول التطرق أولا لمنازعات صاحب الامتياز مع الإدارة مانحة الامتياز التي تخضع للقضاء الوطني الإداري, ثم نتطرق لمنازعات صاحب الامتياز مع الإدارة مانحة الامتياز التي تخضع للتحكيم الدولي :
أولا ـ منازعات صاحب الامتياز مع الإدارة مانحة الامتياز التي تخضع للقضاء الوطني الإداري :
في الأصل أن منازعات عقود الامتياز هي من اختصاص القضاء الإداري الكامل, سواء فيما يخص انعقاد العقد, أو صحته, أو تنفيذه, أو نهايته. و لكن نجد أن مثل هذه المنازعات بدأت تقترب شيئا فشيئا من منازعات تجاوز السلطة (Contentieux de l'excès de pouvoir ), باعتبار أن عقد الامتياز يتضمن نوعين من الشروط : اللائحية و التعاقدية, كما أن العديد من بنود عقد الامتياز تشبه التنظيمات من حيث طابعها التجريدي و العام. و هكذا يمكن أن نميز بين ثلاثة طرق قضائية لتسوية المنازعات الناشئة بين صاحب الامتياز والسلطة الإدارية في كل مراحل عقد الامتياز:
1ـ منازعات القضاء الكامل :
كل الخلافات الناشئة بين صاحب الامتياز و السلطة الإدارية مانحة الامتياز حول صحة العقد, و تنفيذه و زواله يكون من اختصاص القضاء الإداري الكامل, أمام المحاكم الإدارية المختصة ـ الغرف الإدارية المحلية و الجهوية حاليا ـ أو أمام مجلس الدولة, و ذلك حسب نوع السلطة الإدارية المانحة للامتياز (الدولة, الولاية, البلدية, المؤسسة العمومية الإدارية). و أن هذه الدعوى لا يمكن رفعها إلا من طرف الأطراف المتعاقدة, عكس دعوى الإلغاء التي يمكن رفعها من أي شخص ذي مصلحة. و دعاوى القضاء الكامل في عقود الامتياز تأخذ إحدى الصورتين: إما المطالبة ببطلان العقد, أو المطالبة بالتعويض:
ـ الصورة الأولى : دعوى طلب بطلان عقد الامتياز: تكون بسبب بطلان العقد بطلانا مطلقا لعدم توفر أحد أركانه طبقا للقواعد العامة, أو أن يكون العقد قابل للإبطال (بطلان نسبي) لتوافر عيب من عيوب الإرادة. و هذه الأخيرة تكون في صالح الملتزم, أما الإدارة مانحة الامتياز فدائما تكون في منأى عن هذه العيوب باعتبارها الطرف القوي في العقد. و الحكم ببطلان عقد الامتياز يترتب عليه نفس الآثار التي تترتب في القانون الخاص, من حيث أنه يجعل العقد كأن لم يكن, و يرجع الأطراف المتعاقدة للحالة السابقة على العقد. و لا يلزم الطرف المتعاقد الذي لم ينفذ بعد التزاماته بأي تعويض, و لكن الإشكال يثور في حالة بدأ أحد الأطراف في تنفيذ العقد خاصة الملتزم باعتباره الطرف الضعيف؟ هنا يمكن للقاضي الإداري التحقق من مدى حسن نيته, و أن بطلان العقد لم يكن بسبب خطأ منه. بالإضافة إلى هذا فيمكن للطرف المتضرر بطلان العقد أن يطلب من القاضي الإداري الحكم له بالتعويض بناء على أحكام و قواعد المسؤولية العقدية .
ـ الصورة الثانية : دعوى طلب الحصول على مبالغ مالية أو على تعويض: و ذلك للمطالبة بالثمن أو الأجر المتفق عليه في العقد, أو للمطالبة بالتعويض عن أضرار تسبب فيها الطرف المتعاقد الآخر لأي سبب من الأسباب.
و لكن مراعاة لمبدأ الفصل بين السلطة الإدارية و السلطة القضائية, فرغم أنه يجوز للقاضي الإداري الحكم على الإدارة بالتعويضات كما يجوز له فسخ العقد, و لكن لا يمكنه إصدار قرارات تتدخل في التسيير الإداري للإدارة, أو إعطائها أوامر للقيام بعمل او الامتناع عن عمل, كما يمنع على القاضي الإداري أن يشمل حكمه بفرض غرامة تهديدية على الإدارة لإجبارها على التنفيذ, و ما على المتضرر في هذه الحالات السابقة إلا طلب التعويض . و لكن بموجب قانون الإجراءات المدينة و الإدارية الجديد, فيمكن للقاضي الإداري الحكم على الإدارة و إلزامها باتخاذ تدابير معينة, و الحكم عليها بالغرامة التهديدية في حالة عدم التنفيذ .
2 ـ منازعات الإلغاء :
تجد المنازعات المتعلقة بعقود الامتياز مجالها في دعوى القضاء الكامل أمام القضاء الإداري, و بناء على ذلك فإن القاعدة العامة هي عدم قبول الدعوى المرفوعة من طرف صاحب الامتياز بإلغاء أي قرار من القرارات المتعلقة بعقود الامتياز الصادرة من الإدارة مانحة الامتياز. و لكن استثناء أجاز القضاء الفرنسي الطعن بالإلغاء في القرارات الإدارية السابقة على انعقاد العقود الإدارية ـ من بينها عقود الامتياز ـ و التي تسهم في إبرامه مثل رخص إبرام العقد, الإجراءات التحضيرية لإبرام العقد, الموافقة المسبقة من قبل الوصاية على إبرام هذا العقد. و مثال ذلك قرار الوالي برفض المصادقة على منح المجلس الشعبي البلدي لامتياز استغلال مرفق عمومي, أو رفض مجلس الحكومة المصادقة على امتياز تم منحه من طرف وزير مكلف بالقطاع. باعتبار هذه القرارات مستقلة عن عقد الامتياز و تدخل في الإجراءات الإدارية السابقة على إبرامه, و هو ما يعرف فقها و قضاء بنظرية الأعمال الإدارية المنفصلة (La théorie des actes détachables), و التي بناء عليها يمكن للمتعاقد مع الإدارة, و كذلك لأي شخص له مصلحة من الغير, أن يطعن بالإلغاء في هذا النوع من القرارات.
كما يمكن للملتزم الطعن بالإلغاء أمام القضاء الإداري في القرارات و الإجراءات الصادرة عن الإدارة مانحة الامتياز أثناء تنفيذ العقد, كالقرارات أو الإجراءات المتخذة في إطار الضبط الإداري, و التي تمس بحقوق الملتزم, أو تزيد من أعبائه, و كذلك القرارات أو الإجراءات التي تتخذها الإدارة مانحة الامتياز لتعديل عقد الامتياز دون أن تقتضي ذلك ضرورات المرفق العمومي.
3 ـ منازعات القضاء الإستعجالي السابق على إبرام العقد :
تكون هذه المنازعات في حالة مخالفة إجراءات الإشهار و المنافسة في كل العقود الإدارية, و من بينها عقود الامتياز. إذ يجوز لكل شخص له مصلحة في إبرام العقد, أو ممثل الدولة رفع دعوى استعجالية أمام القاضي الإداري, الذي يجوز له إما الأمر بتوقيف إبرام العقد, أو إلغاء القرارات غير الشرعية, أو أمر الإدارة بتعديل البنود أو الشروط غير القانونية.
هذه الإجراءات الحديثة العهد التي كرست في فرنسا لأول مرة في سنة 1992 , و كرسها المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية و الإدارية تحت عنوان الاستعجال في مادة إبرام العقود و الصفقات في المادتين 946, 947 منه. حيث نصت المادة 946 : " يجوز إخطار المحكمة الإدارية بعريضة, و ذلك في حالة الإخلال بالتزامات الإشهار او المنافسة التي تخضع لها عمليات إبرام العقود الإدارية و الصفقات العمومية. يتم هذا الإخطار من قبل كل من له مصلحة في إبرام العقد و الذي قد يتضرر من هذا الإخلال, و كذلك لممثل الدولة على مستوى الولاية إذا أبرم العقد أو سيبرم من طرف جماعة إقليمية أو مؤسسة عمومية محلية. يجوز إخطار المحكمة الإدارية قبل إبرام العقد...." .
ثانيا ـ منازعات صاحب الامتياز مع الإدارة مانحة الامتياز التي تخضع للتحكيم الدولي :
يعرف التحكيم بأنه أسلوب جديد للفصل فيما يثور, أو يحتمل أن يثور من منازعات عقدية, حيث يقوم الأطراف المتعاقدين باختيار محكمين من الأفراد العاديين (التحكيم الخاص), أو باختيار مؤسسة تحكيمية (التحكيم المؤسساتي), و يحددون كيفية التحكيم و إجراءاته, و القانون الواجب التطبيق .
و قد برر البعض اللجوء للتحكيم كبديل لتسوية منازعات العقود الإدارية ذات الطبيعة الدولية ـ منها عقود الامتياز ـ في حسم هذه المنازعات بعيدا عن ساحات القضاء الداخلي, باعتبار أن هذا الأخير غير متخصص في عقود الاستثمار, كما أن أحد أطراف هذه العقود الدولية هم أشخاص أجانب يخشون من التدخلات السياسية للدولة المتعاقدة في قضائها الداخلي, و خاصة دول العالم الثالث, مما يؤدي بهم إلى العزوف عن الاستثمار في هذه الدول. لأنه لا يكفي لتشجيع الاستثمار الأجنبي أن تحدد الدولة القواعد التي تعامل على أساسه هذه الاستثمارات الأجنبية, بل يجب أن يطمئن المستثمرون إلى وجود وسائل عادلة لتسوية ما قد ينشأ بينهم و بين الدولة مانحة الاستثمار من خلافات, و الذي يعتبر التحكيم ربما أفضل وسيلة لحلها . كما أن التحكيم يتيح لنا وجود آلية متخصصة ـ لاسيما في عقود الاستثمار ـ لحل النزاعات طواعية و باختيار أطراف النزاع, بعد فشل المفاوضات بينهم, و بإجراءات بسيطة عكس إجراءات التقاضي. و الدليل على هذا هو لجوء العديد من الدول في العالم للتحكيم في العقود الدولية, و خاصة في مجال عقود النفط التي غالبا ما تمنح عن طريق اتفاقيات الامتياز.
أما فيما يخص الجزائر, فنجد أن المشرع قد كرس معظم الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها ـ المتعلقة بالاستثمار الأجنبي ـ في العديد من النصوص القانونية و التنظيمية, و أشار فيها إلى طريقة التحكيم لحل النزاعات التي قد تنشأ بين الدولة أو أحد أشخاص القانون الإداري من جهة, و بين المستثمرين الأجانب من جهة أخرى, كقانون الإجراءات المدنية المعدل و المتمم , و قانون الإجراءات المدنية و الإدارية الجديد, و كذلك الأمر رقم 01-03 المتعلق بتطوير الاستثمار المعدل و المتمم .
و هذا كله بهدف توفير آليات و ضمانات حل هذه المنازعات التي قد تنشأ مستقبلا , باعتبار أن الدولة الجزائرية قد خطت خطوات متقدمة نحو التفتح الاقتصادي و تشجيع الاستثمار الأجنبي, مما نتج عنه توقيع عدة عقود امتياز دولية بين الجزائر و مستثمرين أجانب, مثل عقد امتياز نقل الغاز الطبيعي بواسطة الأنبوب الجزائري المبرم بين وزير الطاقة و المناجم ممثلا للدولة, و بين شركة مدغاز الإسبانية في 18 أكتوبر سمن 2006, و إبرام اتفاقية امتياز لتسيير مطار هواري بومدين الدولي من طرف شركة مطارات باريس (ADP) في جويلية سنة 2006, و كذلك عقد امتياز تسيير ميناء الجزائر و ميناء جنجن المبرم بين وزير النقل ممثلا للدولة و بين شركة موانئ دبي العالمية في 10 نوفمبر سنة 2008.
و من أهم الضمانات التي يركز عليها المستثمرين الأجانب, هو تحديد كيفية تسوية المنازعات التي قد تنشأ مستقبلا في مجال الاستثمار بعيدا عن القضاء الداخلي, و ذلك بسبب ـ كما ذكرت سابقا ـ عدم تخصص القضاء الداخلي في مثل هذا النوع من المنازعات, و كذلك تحقيقا لمبدأ الحياد باعتبار أن أحد أطراف النزاع هي الدولة أو أحد ممثليها. و إن كان الأصل هو أن القضاء الداخلي هو المختص, و لكن هذا لا يمنع من اللجوء للتحكيم الدولي, و هذا ما تضمنته مقدمة اتفاقية تسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمارات بين الدول و رعايا الدول الأخرى: "إن الدول المتعاقدة....تعترف بأنه إذا كانت هذه المنازعات يجب كقاعدة عامة أن تطرح على القضاء الداخلي, فإن الالتجاء إلى طرق التسوية الدولية في شأن هذه المنازعات يمكن أن يكون مناسبا في بعض الأحيان..." .
مع الإشارة إلى أن تكريس المشرع الجزائري لوسيلة التحكيم لحل النزاعات الناشئة عن عقود الاستثمار الدولية ـ التي من بينها عقود امتياز المرافق العمومية ـ و النص عليها في عدة قوانين, كان تأكيدا منه على احترام الجزائر لالتزاماتها الدولية في هذا المجال, بعد انضمامها لعدة اتفاقيات دولية ثنائية و متعددة الأطراف لحماية و تشجيع الاستثمار الأجنبي و كيفيات حل النزاعات الناشئة عنه. و لعل من أهم هذه الاتفاقيات اتفاقية تشجيع و ضمان الاستثمار بين دول اتحاد المغرب العربي التي صادقت عليها الجزائر في 22-12-1990 , و كذلك الاتفاقيتين اللتين صادقت عليهما في 30 أكتوبر 1995, الأولى تتعلق بإنشاء الوكالة الدولية لضمان الاستثمار, أما الاتفاقية الثانية فتتضمن كيفيات تسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمارات بين الدول و رعايا الدول الأخرى .
و بالتالي فإن التحكيم الدولي في المنازعات الناشئة بين الدولة أو أحد ممثليها (مانح الامتياز), و بين المستثمر الأجنبي (صاحب الامتياز), يتم الاتفاق عليه مسبقا, أو بعد وقوع الخلاف و فشل المفاوضات الثنائية, و بعده يتم تعيين محكمين خواص (تحكيم خاص), أو مؤسسة تحكيمية (تحكيم مؤسساتي) مثل المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار
الفرع الثاني : منازعات صاحب الامتياز مع العاملين في المرفق العمومي :
يعتبر الأفراد العاملين في المرافق العمومية المسيرة عن طريق أسلوب الامتياز عمالا خاضعين للقانون الخاص (قانون العمل), كباقي عمال القطاع الخاص, و تربطهم بصاحب الامتياز علاقة عقدية مدنية, و بالتالي يشغلون مركزا قانونيا تعاقديا. لذا يختص القضاء العادي, و بالتحديد القسم الاجتماعي (العمالي) بنظر منازعاتهم, و الفصل فيها وفق أحكام و قواعد قانون العمل و منازعاته, و كذلك وفق بعض التنظيمات المكملة التي تنظم بعض علاقات العمل الخاصة ببعض القطاعات الحساسة, و لكن دون تعارضها مع أحكام علاقات العمل المعمول بها, و هذا ما نصت عليه مثلا المادة 191 من القانون رقم 98-06 المتعلق بالطيران المدني: "دون المساس بأحكام علاقات العمل, يحدد النظام النوعي لعلاقات الشغل الخاصة بالمستخدمين الملاحين المهنيين عن طريق التنظيم.
المطلب الثاني : منازعات صاحب الامتياز مع الغير :
يتولى الملتزم إدارة وتسيير مرفق عمومي, و يقوم بإشباع حاجة جماعية على درجة عالية من الأهمية, مما يستلزم عليه إبرام عقود مختلفة و متنوعة مع الغير لشراء الأجهزة و الآلات و المستلزمات الضرورية لاستغلاله, مما قد يؤدي إلى قيام منازعات مع هؤلاء الأشخاص. و باعتبار هذه المنازعات ناشئة عن إبرام عقود مدنية و تجارية, فإن اختصاص الفصل فيها يؤول للقضاء المدني أو التجاري, و هذا الأخير يطبق عليها قواعد و أحكام القانون الخاص (القانون المدني أو التجاري), و على الأخص وفق قواعد المسؤولية التعاقدية.
كما يدخل ضمن منازعات صاحب الامتياز مع الغير, بعض المنازعات الناشئة عن بعض الأضرار التي تلحق الغير جراء تسيير المرفق العمومي, مثل حادث مرور يرتكب بحافلة مستغلة بأسلوب الامتياز و تصيب شخص راجل في الطريق. فهذا النوع من المنازعات يخضع للقضاء المدني وفق قواعد و أحكام المسؤولية التقصيرية, كما يمكن أن يخضع للقضاء الجزائي إذا ثبت وجود خطأ جزائي. و المثال عن هذا النوع من المنازعات التي تخضع للقضاء العادي ما نص عليه القانون رقم 98-06 المتعلق بالطيران المدني في المادتين 159, 165 التي حددت حالات مسؤولية الناقل الجوي (صاحب الامتياز) اتجاه الغير: مسؤولية المستغل إزاء الغير على اليابسة, و المسؤولية الناتجة عن اصطدام طائرتين .
بالإضافة لهذه المنازعات التي يمكن أن تنشأ بين الغير و صاحب الامتياز, فإنه يمكن للغير المتضررين من الإجراءات الإدارية الصادرة لتنفيذ أحكام اتفاقية الامتياز, مخاصمة مشروعية هذه القرارات الإدارية أمام القضاء الإداري.
المطلب الثالث : منازعات صاحب الامتياز مع المنتفعين من المرفق العمومي :
يترتب على تقديم الخدمة العمومية للمنتفعين العديد من المنازعات بين الملتزم و هؤلاء المنتفعين, و التي ينعقد اختصاصها للقضاء العادي, الذي يفصل فيها وفق أحكام و قواعد المسؤولية العقدية خاصة عندما يكون صاحب الامتياز من أشخاص القانون الخاص. و المثال عن بعض هذه المنازعات, ما أشار له القانون رقم 98-06 المتعلق بالطيران المدني في القسم الثالث منه تحت عنوان: مسؤولية الناقل الجوي إزاء المسافرين و الشحن و الأمتعة في المواد 145, 146, 147, عند تحديده لحالات مسؤولية الناقل الجوي (صاحب الامتياز) اتجاه المسافرين و أصحاب البضائع (المنتفعين) عن كل المنازعات التي تثور جراء الأضرار التي تصيب المنتفعين جسديا أو تصيب بضائعهم, أو الأضرار الناتجة عن التأخر في الرحلات. أما المادة 155 من نفس القانون فقد حددت المحكمة المختصة إقليميا بالنظر في مثل هذه المنازعات, و هي محكمة موطن الناقل الجوي (صاحب الامتياز) أو محكمة مكان تواجد المؤسسة .
لكن الأمر هنا يختلف عندما يكون صاحب الامتياز شخص من أشخاص القانون العام كالبلدية أو المؤسسة العمومية الإدارية, مثل الامتياز الذي منح للبلديات لاستغلال قاعات السينما , ففي حالة نشوء نزاع فالاختصاص ينعقد للقضاء الإداري, طبقا للمادة 07 من قانون الإجراءات المدنية المعدل و المتمم, و المادة 800 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية الجديد.
كما يجوز للمنتفعين في بعض الأحيان رفع دعوى تجاوز السلطة أمام القضاء الإداري للطعن بعدم مشروعية قرار الإدارة (قرار سلبي بالرفض), لامتناعها عن التدخل لإجبار الملتزم على احترام أحكام اتفاقية الامتياز المتعلقة بتنظيم وتسيير المرفق العمومي, خاصة في حالة عدم احترامه لمبدأ المساواة في تقد يم الخدمات العمومية للمنتفعين. كما يحق للمنتفعين أيضا الطعن بعدم مشروعية الإجراءات و القرارات الصادرة عن الإدارة بمناسبة تنفيذ عقد الامتياز, و التي تكون مخالفة للأحكام التنظيمية لاتفاقية الامتياز .
مع الإشارة إلى أن الطعن في مثل هذه القرارات يتم أمام المحكمة الإدارية ـ الغرفة الإدارية المحلية أو الجهوية حاليا ـ أو أمام مجلس الدولة, حسب نوع السلطة الإدارية مانحة الامتياز (الدولة, الولاية, البلدية, المؤسسة العمومية الإدارية) التي اتخذت الإجراء أو أصدرت القرار محل الطعن.
خاتمة :
المتعارف عليه أن عقد امتياز المرفق العمومي من أشهر العقود الإدارية المسماة وأنجع أسلوب من أساليب الفكر الليبيرالي الحديث، لبناء واستغلال المرافق العمومية خاصة وفق النظام الجديد مشاطرة الاستغلال ، والشيء الذي يؤكد هذا هو انهيار النظام الاشتراكي وتحول العديد من الدول، ومنها الجزائر نحو النظام الليبيرالي، وأخذها بمبادئ اقتصاد السوق والمنافسة الحرة، سواء كان ذلك عن رغبة منها، أو لضرورة ملحة قصد تجنب العزلة الاقتصادية.
أما فيما يخص عقد امتياز المرفق العمومي في التشريع الجزائري بنظاميه القديم، أو الجديد المتمثل في مشاطرة الاستغلال ومن خلال دراستنا هذه، فيمكن أن نستخلص بعض النتائج ونورد حوله بعض الملاحظات، والتوصيات فيما يلى:
1- التشريع الجزائري عرف نظام عقد الامتياز منذ الاستقلال كما خلفه الاستعمار بحكم تعارضه مع مبادئ النظام الفرنسي، ولكنه تراجع فيما بعد واعتمد بصورة متذبذبة، بحكم تعارضه مع مبادئ النظام الاشتراكي، إلى غاية التحول الاقتصادي الذي عرفته البلاد منذ سنة 1989، وتبنيها للنظام الليبيرالي، أين ازدهر عقد الامتياز وأصبح الأسلوب الأكثر استعمالا بالجزائر بنظاميه التقليدي، أو الجديد مشاطرة الاستغلال، هذا الأخير لجأت إليه الجزائر منذ التسعينيات، على غرار باقي الدول الأخرى النامية، لأجل تمويل بناء وتشييد المرافق العمومية الكبرى، بسبب عجز ميزانية الدولة عن تمويلها، وضعف التكنولوجيا والخبرة المحلية عن إنشائها وتسييرها بنجاعة وفعالية.
2- يعتبر نظام مشاطرة الاستغلال نظام مهم جدا، لكونه يعتبر أسلوب مرن قابل للتطوير والتكييف بما يتلاءم والبيئة القانونية لكل دولة، كما يعتبر أيضا وسيلة ناجحة لجلب الاستثمارات الأجنبية بصفة عامة وفي البنية التحتية بصفة خاصة.
3- عدم إخضاع المشرع الجزائري اتفاقيات الامتياز للمصادقة عليها من طرف البرلمان مثلما نجده لدى المشرع المصري والأردني، والمنصوص عليه في الدساتير، خاصة في الحالات التي يكون موضوع الامتياز مرفق عمومي استراتيجي ومهم، ويمنح للمستثمرين الأجانب، وبالتالي نأمل أن يتم منح البرلمان الجزائري هذا الاختصاص مستقبلا، ولما لا حتى الرقابة في مرحلة الاستغلال، وهذا كله بهدف ضمان الحماية الكاملة للأموال العامة وثروات البلاد.
4- ضرورة تنظيم علاقة صاحب الامتياز مع المنتفعين من خدمات المرفق العمومي في كل القطاعات، لتفادي تعسف الملتزم من حرمان بعض المنتفعين من الخدمات، لأسباب ربما لا ترقى للمستوى الذي يجب فيه قطع الخدمة.
5- يستحسن بيان الأسس والإجراءات التي يتم بمقتضاها اختيار صاحب الامتياز، والتقليل من الحالات التي يسمح فيها للإدارة باختيار المتعاقد معها وفق سلطتها التقديرية لحماية الراغبين في التعاقد معها من تعسفها في استعمال هذه السلطة، وضمان حرية المنافسة.
المراجع :
1ـ الأستاذ حمدي باشا عمر: مجمع النصوص التشريعية و التنظيمية المتعلقة بالعقار، دار هومة، طبعة 2005 الجزائر.
2ـ الدكتور عمار بوضياف: الصفقات العمومية في الجزائر، جسور للنشر و التوزيع، الطبعة الأولى سنة 2007 الجزائر.
3 ـ الدكتور محمد سليمان محمد الطماوي: مبادئ القانون الإداري، الكتاب الثاني، دار الفكر العربي، سنة 1979، القاهرة.
4 ـ الدكتور أحمد محيو: محاضرات في المؤسسات الإدارية، ترجمة محمد عرب صاصيلا، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الثالثة لسنة 1979.
5 ـ الدكتور محمود عاطف البنا: الوسيط في القانون الإداري، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، سنة 1992، مصر.
6 ـ الدكتور عبد الفتاح صبري أبو الليل: أساليب التعاقد الإداري بين النظرية و التطبيق، توزيع دار الكتاب الحديث، سنة 1994، مصر.
7 ـ الأستاذ محمد أمين بوسماح: المرفق العام بالجزائر، ترجمة رحال بن عمر و رحال مولاي إدريس، ديوان المطبوعات الجامعية، سنة 1995.
8 ـ الدكتور محمود عبد المجيد المغربي: المشكلات التي يواجهها تنفيذ العقود الإدارية و آثارها القانونية، دراسة مقارنة في النظرية و التطبيق، المؤسسة الحديث للكتاب، الطبعة الأولى لسنة 1998، لبنان.
9 ـ الأستاذ المحامي موريس نخلة: المختار في الاجتهاد الإداري، منشورات الحلبي الحقوقية، سنة 1998، لبنان.
10 ـ الدكتور محمد عبد المجيد اسماعيل: عقود الأشغال الدولية و التحكيم فيها، منشورات الحلبي الحقوقية، طبعة 2003، بيروت.
11 ـ الدكتور علي خطار الشطناوي: موسوعة القضاء الإداري، الجزء الأول، مكتبة دار الثقافة للنشر و التوزيع، سنة 2004، الأردن.
12ـ الدكتور محمد سليمان الطماوي: الأسس العامة للعقود الإدارية، دراسة مقارنة، دار الفكر العربي، طبعة 2005.