شرح جريمة قيام الزوجة
بترك الاسرة في القانون الجزائري
أركان قيام جريمة ترك مقر الأسرة
الإجراءات الجزائية المتبعة لحماية الكيان الأسري
مقدمة
إن عناية المشرع الجزائري بعقد الزواج راجع إلى أهمية العقد، كونه يرتب آثارا كبيرة أهمها النسب وحرمة المصاهرة وغيرها ، وظل الزواج هو الإطار الشرعي في بناء الأسرة وأساس تكوين الصلة والروابط الأسرية، ويهدف هذا النكاح في حقيقته إلى تنظيم العلاقة بين الزوج وزوجته وفقا للقواعد الدينية والقانونية التي تؤدي إلى الطمأنينة بين أفراد المجتمع لدعم الرابطة الزوجية بين الطرفين.
كما قد تتحول هذه العلاقة بسبب الخلاف وسوء العشرة الزوجية، وعدم معرفة الطرفين أو أحدهما بالمسؤولية الملقاة على كاهله، فالمسؤولية الزوجية تعتبر عنصرا جوهريا في علاقة الزواج لأن بها يعرف كل واحد دوره في الأسرة، فيدرك ماله من حقوق وما عليه من التزامات، فمتى تحقق الهدف المنشود من النكاح، ساهم في بناء مجتمع متين ذو أواصر قوية ومترابطة، أما في حالة إهمال تلك المسؤولية الزوجية وفكر كل زوج بأنانية، وترك كل واحد منهما دوره الذي وضع من أجله، اختل التوازن الأسري، وبالتالي تنجرف عن الهدف الذي أنشأت من أجله حيث تصبح مشتتة ومهددة بالضياع والزوال، وعندها يصبح الطلاق أمر لابد منه، هذا الانفصال يشكل نتيجة وخيمة غير مرغوب فيها بالنسبة للأسرة، ويعتبر كارثة كبرى تقع على كيان المجتمع.
و يعتبر من جملة الأسباب الواقعية والقانونية التي تؤدي إلى فك الرابطة الزوجية عدم تحمل الزوجين أو إحداهما مسؤوليته نحو اتجاه الآخر، لأن التهاون الصادر من الزوجين سيؤدي لا محال إلى انهيار الأسرة فهذه الأخيرة تعتمد على الترابط والتكافل، ولبقاء هذه المقومات قد حرص المشرع على تجريم كل الأفعال التي تمس بكيانها واستقرارها، ومن بين هذه الأفعال المجرمة جريمة ترك مقر الأسرة التي تعتبر من بين الجرائم التي نص عليها المشرع الجزائري في الفصل الثاني من الجزء الثاني من قانون العقوبات ولإثراء الدراسة في هذا الموضوع، نطرح التساؤل التالي :
ما هي الأركان المكونة لجريمة ترك مقر الأسرة ؟ وما مدى نجاعة السياسة الجنائية التي اعتمدها المشرع الجزائري لحماية كيان الأسرة ؟.
وللإجابة على هذه الإشكالية ارتأينا تقسيم الإجابة على النحو التالي :
أولا : أركان قيام جريمة ترك مقر الأسرة
ثانيا: الإجراءات الجزائية المتبعة لحماية الكيان الأسري.
أولا : أركان قيام جريمة ترك مقر الأسرة :
إذا كانت الحياة الزوجية تهدف من حيث الأساس إلى تكوين أسرة أساسها المودة والرحمة وتتطلب قدرا كبيرا من التعاون والتكافل بين الزوجين كما تتطلب في نفس الوقت بذل جهد مشترك لإقامة بيت سعيد آمن ومستقر، فإن تخلي أحد الزوجين أو أحد الوالدين عن وظيفته وترك مقر الزوجية دون سبب جدي أو شرعي لمدة تتجاوز الشهرين دون أن يترك لزوجته وأولاده مالا ينفقون، ودون أن يترك من يتولى رعايتهم والاهتمام بشؤونهم في غيابه يشكل جريمة يعاقب عليها القانون.
ولهذا سوف نتطرق إلى الأركان المكونة لجريمة ترك مقر الأسرة والتي تتطلب لقيامها توافر الركن الشرعي الفرع 1 بالإضافة إلى الركن المادي مع توافر عناصره مجتمعة الفرع 2 مع اشتراط النية الإجرامية مع فقدان السبب الجدي للهجر الفرع 3.
الفرع الأول : الركن الشرعي في الجرائم ضد الكيان الأسري
ونقصد به الشخص تارك منزل الزوجية الذي يجب أن يكون متوفرا على صفة الأب أو الأم من جهة، أو صفة الأصل مطلقا كالجد أو الجدة من جهة ثانية .
1-صفة أب أو أم الأسرة :
لقد نصت المادة 330 من قانون العقوبات الجزائري على ما يلي : ”... أحد الوالدين الذي يترك مقر أسرته لمدة تتجاوز شهرين (2) ويتخلى عن كافة التزاماته الأدبية أو المادية المترتبة على السلطة الأبوية أو الوصاية القانونية، وذلك بغير سبب جدي...”.
فمن خلال استقراء النص القانوني المشرع لم يبين لنا معنى الأبوان بصفة واضحة، فهل يقصد الأب والأم الشرعيين أو غير الشرعيين فإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن ارتكاب هذه الجنحة من طرف الأب الطبيعي أو المتبني ؟.
بالنسبة للفقه الفرنسي لا يرى أي مشكل في توسيع الحماية لتشمل الأولاد الطبيعيين مادام الفقه الفرنسي جعل من الطفل الطبيعي يتمتع بنفس حقوق الطفل الشرعي.
أما بالنسبة للتشريع الجزائري فإنه لا يعترف بالأسرة الطبيعية والمتبنية، هذا ما نصت عليه المادة 46 من قانون الأسرة الجزائري :”يمنع التبني شرعا وقانونا “ فالتبني يعتبر حرام شرعا وممنوع قانونا ولا ينتج عنه أي أثر من آثار البنوة الشرعية “.
2- الأصول :
التساؤل الذي قد يطرح في هذا الصدد في حالة ما إذا ترك أحد الأجداد مقر الأسرة، فهل يمكن متابعة أحد الأصول جزائيا بجريمة ترك مقر الزوجية ؟
يفرض نص المادة 330 من قانون العقوبات الجزائري في المتهم تارك مقر الأسرة أن تتوفر فيه صفة أب أو أم الأسرة، وهذه الصفة في حقيقة الأمر لا تنطبق إلا في حالة علاقة الأولاد مع آبائهما المباشرين ولا تنطبق على العلاقة البعيدة التي تكون بين الأحفاد مع أصولهم الآخرين .
وخلاصة القول أن جريمة ترك مقر الأسرة لا يمكن أن ترتكب إلا من الآباء والأمهات المباشرين الشرعيين، باستثناء الأم وولدها الطبيعي تجاه أبنائهما القصر تحت الولاية أو الحضانة.
الفرع الثاني : الركن المادي في الجرائم ضد الكيان الأسري :
بالرجوع إلى نص المادة 330 من قانون العقوبات الجزائري، التي تقضي على أنه : ”…أحد الوالدين الذي يترك مقر أسرته لمدة تتجاوز شهرين ويتخلى عن كافة التزاماته الأدبية أو المادية المترتبة على السلطة الأبوية أو الوصاية القانونية، وذلك بغير سبب جدي “.
فمن خلال استقراء النص القانوني يتبين أن جريمة ترك مقر الأسرة يشترط لقيامها توافر عناصرها المكونة لها مجتمعة من ترك محل الزوجية (أولا) والتخلي عن الالتزامات العائلية (ثانيا) لمدة تزيد عن الشهرين (ثالثا) .
1-ترك محل الزوجية :
من شروط قيام هذه الجريمة الابتعاد الجسدي عن مقر الزوجية، والذي يقصد به مكان إقامة الأب والأم والأبناء القصر، وهذا يقتضي بالضرورة وجود بيت الزوجية يتركه المتهم مع التملص من واجباته العائلية.
أما إذا ظل الزوجان بعد زواجهما منفصلين يعيش كل منهما في بيت أهله منفصلا عن الآخر وكانت الزوجة تتولى رعاية أولادها ففي هذه الحالة ينعدم مقر الزوجية وبالتالي يحكم القاضي بعدم قيام هذه الجريمة.
والملاحظ أن القانون يتحدث عن الأب أو الأم دون التمييز بينهما، بصرف النظر عن ممارسة الولاية .
ويعني ذلك أن خروج الأب أو الأم من البيت الذي يقيمان فيه مع أطفالهما إلى مكان آخر، وسواء كان ذلك المكان بعيدا أم قريبا يجب أن يوافق ذلك الخروج إخلال أحد الأبوين بواجبات الولاية أو الوصاية أو الحضانة.
حيث اعتبر المشرع الجزائري كغيره من المشرعون المغاربيون على أن هده الجريمة هي جريمة عمدية منصوص عليها بصريح العبارة في المادة 330 فقرة 2 من قانون العقوبات الجزائري بقولها : ” الذي يتخلى عمدا ولمدة تتجاوز الشهرين …”
2- التخلي عن الالتزامات العائلية وعدم الوفاء بها :
إن الالتزامات العائلية تقع على عاتق كل من الأب والأم اتجاه الزوج والأولاد، حيث اشتملت التحلي عن الالتزامات المادية والأدبية، وهذا العنصر لا يشترط إلا في صورة وجود أطفال في المقر الأسري لمدة تتجاوز الشهرين .
وعنصر التخلي عن الالتزامات المادية والأدبية التي تفرضه الصورة الأولى من الجريمة وفقا لما جاء في البند الأول، يمكن أن يقع من الأب أو الأم “ أحد الوالدين ” فالأب باعتباره صاحب السلطة الأبوية والأم باعتبارها صاحبة الوصاية القانونية عند وفاة الأب، هنا فقط الشخصان الوحيدان المقصودان بهذا العنصر .
وبالتالي فإن التخلي عن الالتزامات العائلية، يشكل امتناعا عن أداء الواجب تجاه زوجته ولأولاده القصر الذين هم تحت ولايته وعندما تتملص الأم من أداء واجب الحضانة.
هذا التحلي عن الالتزامات ولواجبات العائلية لا يحدث عمليا ونظريا إلا في حالات هروب المتهم أو فراره من مقر الأسرة، حينئذ يمكن متابعته جنائيا طبقا للمادة 330 من قانون العقوبات الجزائري، أما إذا كان تملصه عن أداء واجباته ولا يصاحبها هروب أو فرار فهذا لا يشكل جريمة ترك مقر الأسرة وبالتالي لا يمكن متبعته جنائيا.
والتساؤل الذي يطرح في هذا الصدد، هو فيم تتمثل هذه الالتزامات التي تقع على عاتق كل من الأب أو الأم تجاه أولادهما ؟
فالمقصود بالواجبات التي تقع على الأب أو الأم هي تلك الالتزامات المادية والمعنوية التي إذا تخلى عنها الآباء أو الأمهات يتعرضون للمتابعة الجزائية .
فبالنسبة للالتزامات المادية تتمثل أساسا في النفقة الغذائية وهي واجبة على الآباء فقد حددتها المادة 75 من قانون الأسرة الجزائري:”يجب نفقة الولد على الأب ما لم يكن له مال، فبالنسبة للذكور إلى سن الرشد والإناث إلى الدخول ويستمر في حالة ما إذا كان الولد عاجز لعاهة عقلية أو بدنية أو مزاولا لدراسته وتسقط بالاستغناء عنها بالكسب ”.
أما الالتزامات الأدبية والمعنوية فقد نصت عليها المادة 36 من قانون الأسرة المتعلقة بواجبات الزوجين أثناء الحياة الزوجية على أنه : ” يجب على الزوجين التعاون على مصلحة الأسرة ورعاية الأولاد وحسن تربيتهم ” كما نصت المادة 62 من قانون الأسرة المتعلقة بالحضانة ” الحضانة هي رعاية الولد وتعليمه والقيام بتربيتهم على دين أبيه والسهر على حمايته وحفظه صحة وخلقيا “.
والملاحظ أن المشرع الجزائري قد أجاد في عدم التفريق بين الالتزامات الواقعة على الأب بصفته صاحب السلطة الأبوية، والأم صاحبة الوصاية القانونية بعد وفاة الأب، أو بعد إسناد الحضانة إليها بعد الطلاق فكل منهما يتحمل التزاماته المادية والمعنوية، على خلاف ماتجه إليه القضاء في فرنسا من تخصيص الالتزامات المادية والأدبية للأب والمعنوية للام، لان مصلحة الطفل تتنافى وهذه التفرقة، وتفرض عدم التخصيص في الالتزامات .
3- مدة الإهمال يجب أن تزيد على الشهرين :
من شروط قيام هذه الجنحة استمرار ترك مقر الأسرة لمدة تزيد عن شهرين ابتداء من تاريخ ترك الزوج لمقر الزوجية والتخلي عن التزاماته العائلية إلى تاريخ تقديم الشكوى أو الشكاية ضده، حيث أن المشرع الجزائري أولى أهمية كبيرة حيث يوجب أخذ هذه المدة على شمولها، فهي تحتوي على أمرين، أولهما : مغادرة مقر الأسرة وثانيهما : هو التخلي عن الالتزامات العائلية في آن واحد.
فإذا كان هذا الغياب شرطا ضروريا فإنه لا يكفي وحده لقيام هذه الجريمة، بل لابد من استمراره لمدة تزيد على الشهرين، لكن إذا عاد المتهم إلى مقر الأسرة واستأنف حياته العائلية بمحض إرادته لا يعتبر في هذه الحالة مرتكبا لجنحة ترك الأسرة .وبالتالي لا ترتكب هذه الجريمة بمجرد أن يترك المتهم سواء كان الأب أو الأم مقر الزوجية أو مقر إقامة الأسرة، لمدة أكثر من شهرين، مع تملصه عن أداء واجباته المادية والمعنوية المفروضة عليه بحكم القانون، كما أشرنا سابقا .
ما ينبغي الإشارة إليه في هذا المجال هو أدلة إثبات مرور مدة الشهرين على ترك مقر الأسرة وأدلة إثبات التخلي عن الالتزامات العائلية إنما يقع على عاتق الزوجة الشاكية بالتعاون مع وكيل الجمهورية، وذلك بكل وسائل الإثبات القانونية، بحيث لو عجزت الشاكية عن إثبات مرور أكثر من شهرين على ترك مقر الأسرة أو عجزت عن إثبات كون الزوج قد تخلى خلال هذه المدة عن التزاماته الأدبية أو المادية فإن شكواها سوف لا تقبل.
الفرع الثالث : النية الإجرامية في الجرائم ضد الكيان الأسري :
بالإضافة إلى الركن المادي يجب أن تتوفر الركن المعنوي، أي العنصر الإرادي لقيام جريمة ترك مقر الأسرة، الذي يتمثل في نية المغادرة للوسط العائلي إضافة إلى إرادة قطع الصلة بالأسرة، والركن المعنوي يتكون من قصد جنائي خاص وقصد جنائي عام ففي هذا الأخير يتمثل في انصراف إرادة الجاني إلى ارتكاب الفعل مع علمه بكافة العناصر المكونة للركن المادي للجريمة كما ينتفي القصد الجنائي العام لانتفاء إرادة الفاعل إذا كانت تحت تأثير إكراه مادي كما ينتفي أيضا في حالة انعدام علم الجاني، أما القصد الجنائي الخاص يتمثل في العلم والإرادة ويتحقق هذا القصد بتوجيه إرادة الجاني إلى ترك مقر الأسرة والتهرب أو الإخلال بالتزاماته المادية والمعنوية أي إرادة الهجر دون سبب جدي يبرر ذلك، لذلك يبقى لقاضي الموضوع السلطة التقديرية في افتراض وجود القصد الجنائي من عدمه حسب ما تتوفر لديه من أدلة تثبت ذلك.
وانطلاقا مما تقدم فجريمة ترك مقر الأسرة تتطلب أن تكون الأم والأب على وعي تام بخطورة إخلاله بالتزاماته العائلية، وما يترتب عنها من نتائج وخيمة على صحة وسلامة وتربية وأخلاق أبنائهم القصر .
وعلى المتهم أن يدحض وجود النية الإجرامية أو وجود القصد الجنائي وأن يؤسس خروجه أو تركه لمقر الأسرة على سبب مشروع مع قيامه بالتزاماته العائلية على الوجه المطلوب على الرغم من بعده عن البيت.
الفرع الرابع : فقدان السبب الجدي :
إن عنصر فقدان السبب الجدي يعتبر من العناصر المكونة لجريمة ترك مقر الأسرة، فغياب الموجب القاهر أو السبب الشرعي الذي يجعل الأب أو الأم أو الزوج بتخليه عن كل أو بعض التزاماته العائلية أو يترك مقر الزوجية بصفته صاحب السلطة الأبوية أو الوصاية القانونية.
فبمفهوم المخالفة فقد أجاز المشرع الجزائري للأب والأم ترك مقر الأسرة لسبب جدي سواء كانت ظروف صحية أو عائلية أو مهنية، دفعت الأب إلى ترك مقر الأسرة أو بيت الزوجية كسبب أداء الخدمة الوطنية أو داعي البحث عن عمل ….فإن السبب عندئذ يعتبر سببا جديا وشرعيا وليس فيه نية الإضرار بأفراد الأسرة.
لقد نصت المادة 330 من قانون العقوبات الجزائري على هدا العنصر بقولها : ” …بغير سبب جدي …”، فهذه العبارة تعتبر غامضة يتم إخضاعها للسلطة التقديرية للقاضي، الذي يجب أن يبحث عن جميع الوسائل التي تمكنه وتعينه على عمله، فالسبب الجدي الموجب للقهر هو ظرف تسقط بموجبه الصفة الإجرامية للأفعال التي يرتكبها المتهم .
و خلاصة القول، هو أن جريمة ترك مقر الأسرة لا يمكن تحققها والمعاقبة عليها إلا بتوافر عناصر أساسية وهي الابتعاد جسديا عن مقر الاسرة ووجود رابطة الابوة أو الأمومة، وعدم الوفاء بالالتزامات العائلية لمدة تفوق الشهرين دون سبب جدي، فإذا تخلف عنصر من هذه العناصر زالت الصفة الإجرامية عن الفعل.
ثانيا : الإجراءات الجزائية المتبعة لحماية الكيان الأسري :
لما ترتكب جريمة تمس بالأسرة كجريمة ترك مقر الأسرة والتي اعتبرها المشرع من الجرائم العائلية العمدية فلابد من معاقبة مرتكبيها.
لهذا سنتطرق في هذا القسم إلى الإجراءات المتبعة لضبط ومعاقبة مرتكبي هذه الجرائم ومعرفة العقوبات المقررة لهم، حيث سنتناول الإجراءات (الفرع 1) والعقوبات المقررة (ثانيا) .
الفرع الأول : إجراءات المتابعة لحماية الكيان الأسري :
الأصل في تحريك الدعوى العمومية هو من اختصاص النيابة العامة وحدها باعتبارها وكيلة على المجتمع، كما نصت عليه المادة 1 و29 من قانون الإجراءات الجزائية، حيث نصت المادة 1 منه على أن : ” الدعوى العمومية لتطبيق العقوبات يحركها ويباشرها رجال القضاء أو الموظفون المعهود إليهم بمقتضى القانون كما يجوز أيضا للطرف المتضرر أن يحرك الدعوى طبقا للشروط المحددة في القانون .”
والمادة 29 من نفس القانون ” تباشر النيابة العامة الدعوى العمومية باسم المجتمع وتطالب بتطبيق القانون وهي تمثل أمام كل جهة قضائية، ويحضر ممثلها المرافعات أمام الجهات القضائية المختصة بالحكم….”.
نستشف من خلال هذه النصوص القانونية أن تحريك الدعوى العمومية في هذه الجريمة مقيد على شرط تقديم شكوى من قبل الزوج المتروك وهذا طبقا لنص الفقرة الأخيرة من المادة 330 من قانون العقوبات بل الأكثر من ذلك فقد ذهبت المحكمة العليا إلى جعل أحد الأسباب المؤدية إلى النقض هو عدم الإشارة إلى شكوى الزوج المتروك وهو ما نصت عليه في إحدى قراراتها الذي جاء في حيثياتها “…. يعتبر مشوبا بالقصور ومتقدم الأساس القانوني وبالتالي يستوجب نقض القرار … ولم يشر إلى شكوى الزوجة المهجورة ”.
لا تتخذ إجراءات المتابعة إلا بناءا على شكوى من الزوج المتروك المادة 330 قثرة 3 من قانون العقوبات ويترتب على ذلك النتائج التالية :
- إذا باشرت النيابة العامة المتابعة بدون شكوى، تكون هذه المتابعة باطلة بطلانا نسبيا لا يجوز لغير المتهم إثارته، على أن يثيره أمام المحكمة أول درجة وقبل أي دفاع في الموضوع .
- إذا كانت النيابة العامة مقيدة في تحريك الدعوى العمومية بشكوى الزوج المتروك بحيث لا يجوز لها مباشرة المتابعة الجزائية بدون شكوى، فإنها تبقى صاحبة سلطة ملائمة، ومن ثم يجوز لها تقرير حفظ الشكوى ان هي رأت بأن شروط المتابعة غير متوفرة، مادامت المتابعة معلقة على شكوى وبالتالي فإن سحب الشكوى يضع حدا للمتابعة حسب المادة 6 فقرة 3 من قانون الإجراءات الجزائية.
مما سبق نجد أن المشرع الجزائري قيد تحريك الدعوى العمومية بالنسبة لها أيضا بضرورة تقديم شكوى من الزوج الذي بقي في مقر الأسرة، وإن تنازل عن هذه الشكوى يكون مقبولا بالنسبة لهذه الجريمة ما لم يكن قد صدر حكم نهائي فإنه في هذه الحالة لا يوقف التنازل تنفيذ الحكم النهائي.
ما يمكن قوله أن أحد الزوجين الذي قدم شكوى ضد الزوج الآخر يجب أن يكون لازال باقيا في مقر الزوجية، لأنه إذا كان الزوج قد ترك محل الزوجية وقامت الزوجة هي الأخرى بترك مقر الزوجية، فإنه لا مجال لقبول الشكوى من أحدهما، ولا مجال لتطبيق المادة 330 من قانون العقوبات، لأن بقاء الشاكي في مقر الزوجية يعتبر شرطا لقبول الشكاية ولإمكانية القيام بإجراءات المتابعة.
وبالطبع لابد من وجود رابطة سببية بين السلوك الإجرامي والنتيجة التي تتحقق مع توافر القصد الجنائي الذي يتمثل في اتجاه الجاني وإدراكه إلى إلحاق الضرر بعائلته وأسرته وأولاده، نتيجة التخلي عنهم لمدة زمنية محددة لا تقل عن الشهرين، أما إذا كان الزوج ينفق عن عائلته ويهتم بأحوالهم وتفقدهم بالسؤال عنهم، ورغم غيابه عنهم، فهذا ما يجعل من الجريمة واقعة غير متكاملة الأركان وينفي عن صاحبها العقاب، ولو كانت المدة تتجاوز الشهرين، وتحسب هذه المدة ابتداء من ترك الزوج لمقر الزوجية والتخلي عن الالتزامات العائلية إلى تاريخ تقديم الشكوى ضده.
الفرع الثاني : الجزاءات المقررة لجريمة ترك مقر الأسرة :
لما تجتمع أركان الجريمة يمكن أن تتم المتابعة الجزائية، وعند حدوثها إما أن يحكم القاضي بالبراءة في حالة عدم ثبوت إدانة المتهم أو لعدم وجود أدلة كافية، وإما أن يحكم القاضي بالعقوبة المقررة في حالة ثبوت التهمة في حق المتهم .
تعاقب المادة 330 في فقرتها الأخيرة على ترك مقر الأسرة ” يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة من 50.000 إلى 200.000 دج أحد الوالدين الذي يترك مقر أسرته لمدة تتجاوز الشهرين ويتخلى عن كافة التزاماته الأدبية والمادية المترتبة عن السلطة الأبوية والوصاية القانونية ”.
وعلاوة على العقوبة الأصلية سابقة الذكر نصت المادة 332 من قانون العقوبات على جواز الحكم على المتهم بالحرمان من ممارسة الحقوق الوطنية والمدنية والعائلية، كعقوبة تكميلية، وذلك من سنة إلى خمس سنوات .
وبوجه عام يجيز قانون العقوبات الحكم على الشخص المدان لارتكابه جنحة ترك مقر الأسرة بالعقوبات التكميلية الاختيارية المنصوص عليها في المادة 9 المتمثلة في المنع من ممارسة مهنة أو نشاط، إغلاق المؤسسة، الإقصاء من الصفقات العمومية، الحضر من إصدار الشيكات أو استعمال بطاقات الدفع، سحب أو توقيف رخصة جديدة، سحب جواز السفر وذلك لمدة تتجاوز 5 سنوات لا يعاقب بهذه العقوبة حسب القضاء الفرنسي إلا المدين بالالتزامات العائلية أي الأب والأم دون غيرهما ممن قد يوصف بالشريك
مما سبق ذكره يرى الباحثون انه إذا رأت المحكمة أن كافة العناصر الجرمية متوفرة وقررت إدانة الزوج المشتكي منه، فانه سيكون من الأفضل لها أن تحكم عليه بعقوبة مالية رمزية مخففة وان تحكم عليه بعقوبة مدنية مع وقف التنفيذ كلما ظهر لها ذلك من دراسة ظروف الحال إن العقاب المخفف أو الرمزي أو الموقوف من شأنه أن يساعد في إعادة بناء قواعد الأسرة على أساس المحبة والتعاون والوفاق
الخاتمة :
لقد حاول المشرع الجزائري حماية الأسرة من الإهمال بوضع آليتين مهمتين، أولها آلية التجريم وثانيها آلية التقييد، فالأولى تتجلى في تجريم كل فعل يمس بكيان الأسرة ويؤدي إلى إهمالها، والثانية أن الدعوى العمومية لا تتحرك أي أن المتابعة الجزائية لا تتم إلا بناء على شكوى الطرف المضرور، مع إمكانية الصفح الذي يضع حدا للمتابعة .
وبالرغم من مساعي المشرع لوضع حد لهذه الجريمة إلا أنه لم يوفق إلى الحد من هذه الجريمة أو على الأقل التخفيف منها في وسط المجتمع الجزائري للتقليل من ظاهرة التطليق التي أصبحت منتشرة في أروقة المحاكم الجزائرية، حيث لا بد على المشرع أن يتدارك بعض الثغرات القانونية في هذا المجال كالتقليل من مدة الشهرين في المادة 330 فقرة 1 وذلك بتعديل عبارة ” أحد الوالدين الذي يترك الأسرة ” وذلك بحذف كلمة “مقر ” حتى لا يرتبط الهجر بالمكان فقط . كذلك اشتراط المشرع وجود مقر رسمي للزوجية في حين أن هناك العديد من العائلات ليس لها مقر رسمي لذلك وجب على المشرع تعديل بعض العبارات من أجل تحقيق حماية الكيان الأسري من أي شئ قد يؤدي إلى تفككها وانهيارها، باعتبارها النواة الأساسية في المجتمع .
المراجع :
- الأمر رقم 66-156 المؤرخ في 8 يونيو 1966، المتضمن قانون العقوبات المعدل والمتمم بالقانون رقم 16-02 المؤرخ في 19 يونيو 2016.
- الأمر رقم 66-155 المؤرخ في 8 يونيو1966 يتضمن قانون الإجراءات الجزائية المعدل والمتمم بالقانون رقم 11-06 الصادر بتاريخ 22 مارس 2011، الجريدة الرسمية الصادرة بتاريخ 22 مارس2011 عدد 19.
- أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجزائي الخاص، الجرائم ضد الأشخاص والجرائم ضد الموال وبعض الجرائم الخاصة، الطبعة العاشرة،دار هومه للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 2009.
- إيهاب عبد المطلب وسمير صبحي، الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح القانون الجنائي المغربي في ضوء الفقه وأحكام المجلس الأعلى المغربي ومحكمة النقض المصرية، المجلد الرابع، الطبعة الثانية، المركز القومي للإصدارات القانونية، القاهرة، سنة 2011.
- أزكيك سعيد، إهمال الأسرة في التشريع المغربي، الهلال العربية للطباعة والنشر، سنة 1992.
- بوزيان عبد الباقي، الحماية الجنائية للرايطة الأسرية في التشريع الجزائري، مذكرة ماجستير في العلوم الجنائية وعلم الإجرام، كلية الحقوق،جامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان،2009-2010.
- عبد العزيز سعد، الجرائم الواقعة على نظام الأسرة، الطبعة الثانية، الديوان الوطني للأشغال التربوية، الجزائر،2007.
- عبد الحليم بن منشري، الجرائم الأسرية دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون، أطروحة دكتوراه في القانون الجنائي، جامعة محمد خيضر بسكرة،2008.
- لنكار محمود، الحماية الجنائية للأسرة دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه علوم، تخصص قانون جنائي، كلية الحقوق، جامعة منثوري، قسنطينة،2010.
- محمد خريط، مذكرات في قانون الإجراءات الجزائية، دار هومه، الطبعة السادسة، الجزائر، سنة 2011.
- دردوس مكي، القانون الجنائي الخاص في التشريع الجزائري، الجزء الثاني، ديوان المطبوعات الجامعية، قسنطينة، 2005.